غلاف «الأيام»
غلاف «الأيام»




غلاف نزل الظلام
غلاف نزل الظلام
الرباعي
الرباعي
-A +A
قراءة: علي بن محمد الرباعي
تجمعنا الحياة بشخصيات اجتماعية لها فرادة غير مألوفة، على مستوى الشكل، أو الصورة بكل إيحاءاتها، وأسلوب الحكي، وخبرة وتراكم التجربة، ما يمكن أن نطلق عليها الذات المسردة بأصل الفطرة، أي أنها ذات جاهزة لكتابتها روائياً، مع الأخذ في الاعتبار أن العمل الروائي إبداع غالبه الخيال، وكثيراً ما أطلقنا «زوربا» على بعض أصدقائنا ومعارفنا، كونهم لا يقلون في عشقهم للحياة وفانتازيتهم عن بطل «كازنتزاكي».

بالطبع هناك ذوات فقيرة جداً فنياً ومعرفياً، بل ومعدمة، وهي برغم كل ذلك تحاول جاهدة أن تسرّد ذاتها، وتلعب دور بطولة على الورق، ومن هنا تأتي مجاجة الشخصية، ورفضها حياتياً وفنياً، لأنه لا يمكن لصادق أن يستحضر نفسه بطلاً بعد موت كل شهود العيان، وبقدر ما تحاول التجارب العادية أن تكون نوعية قدر ما تقع في ظلام دامس يكاد تعبيره النرجسي يذهب بالإعجاب.


من الإشكالات التي عانى منها النقاد الأوفياء لفنهم أن يصمم البعض على أن كل سيرة ذاتية قابلة التحويل إلى عمل سردي فاتن، ومرد ذلك حسن ظن الإنسان في نفسه، أو في غيره من الشخصيات الاجتماعية والعاطفية التي تمر به، سواء من بنات الشتات أو أبناء الذوات، وعرف العرب السير باعتبارها توثيقا لتاريخهم واتصال حاضرهم بماضيهم، كما يؤكد الدكتور إحسان عباس في كتابه فن السيرة، إذ يرى أن السيرة الذاتية تناولت جانباً من الأدب العربي عامراً بالحياة، وذكر الشواهد مما تركته السيرة الذاتية على الجاحظ وأبي حيان التوحيدي، وابن خلدون وابن جبير، وحتى ابن إسحاق.

ويرى الناقد الفرنسي «فيليب لوجون» في كتابه «السيرة الذاتية الميثاق والتاريخ الأدبي» أن السيرة الذاتية سرد نثري يقوم به شخص واقعي عن وجوده الخاص، ويركز على حياته الفردية وعلى تاريخه الشخصي، ويضيف بأنه لكي تكون هناك سيرة ذاتية يجب أن يكون هناك تطابق بين المؤلف والراوي والشخصية، وذلك يتحقق إما بصورة ضمنية من خلال التصريح الواضح أن النص سيرة ذاتية، أو أن يتقدم الراوي بجملة التزامات للقارئ بأنه سيتصرف على أنه المؤلف حيث لا يترك تأكيده أي شك في أنه يحيل على المؤلف المثبت اسمه على غلاف الكتاب، أو بصورة جلية، وذلك من خلال التطابق الواضح في كل شيء بين الراوي والشخصية.

تاريخياً هناك من السير الذاتية، العربية والغربية، ما يشعرك بأنها ليست حديثاً عن ذات، قدر ما هي عرض تجارب حياتية غنية، ويعد كتاب «الأيام» لطه حسين من أوضح المسالك وأنجحها في تحويل الطفل الضرير من حالة إنسانية إلى ظاهرة ثقافية احتفى بها الغرب أولاً ثم الشرق إثر كسر التابوهات وتجاوز المجتمع المصري والعربي الأحكام المسبقة، ومحاكمة النصوص.

عميد الأدب العربي في كتابه «الأيام» استثمر تجربته الخاصة، ومعاناته التي ربما لا تقل عن معاناة أي كائن بشري ارتبط بفضاء مكاني تقليدي ورجعي، ناهيك عن محدودية الموارد المالية، وتفشي الجهل والخرافة، إلا أن حضارية الأب عنوان الإضاءة الكبرى كونه ملهماً ومعيناً في تعزيز الروح المعنوية، ما أسهم في تحقيق طه حسين الانتصار بتحقيقه أعلى مراتب المعرفة والعلم، إضافة إلى الانتقام بالكتابة من كل الظروف القاسية والشخصيات الخشنة، ومن يقرأ «الأيام» تتملكه الدهشة والعجز عن الفرز بين ما هو واقعي وما هو متخيل، خصوصاً أن العميد عزز ثقة المكفوفين في أنفسهم وأنهم أنجح من كثير من المبصرين.

في رواية «نزل الظلام» يؤسس ماجد الجارد لمفهوم إعلاء شأن الفن على حساب واقعية المتاعب اليومية، ولم يضخم الكاتب حالته الذاتية، بل تناول تجربة فنية تتقاطع مع عشرات من البشر، بعضهم يملك موهبة الكتابة عبر التسريد، وتهجين الحكي بما هو متخيل وما هو واقعي، والجارد ينتصر للأب كما تنتصر الأم من خلال إتاحة الفرصة لكفيف ليفكك الأزمة، بالقراءة والاستماع وتجنيد المقومات اللغوية والشعرنة الحكائية «يبدو أن حياتي لا تعرف سوى بُعدين إما النور أو الظلمة، وإما البقاء أو الترحال، إما بذخ الأمومة أو واحة الحرمان مفتقدة البُعد الثالث، ذاك القائم بين بُعدين المعنِي بتحقيق التسوية حتى لو كانت بالعُتمة واستراحة المسافر وحد الكفاية، أما يكفيني حرماني من رؤية وجه أمي». الجارد ينجح في إحياء الذاكرة، وإضاءة التجربة بشيء من عفوية السرد، وانتقائية التوثيق لتجربة إنسانية تستحق أن تكتب وتروى وتقرأ لتثبت الكتابة روحا أكثر من كونها جسدا «حين ولدتُ، نظر والدي لتقلب لون عيني من الأسود إلى الأبيض، ومن يومها تحولت العلاقة بيني وبينه إلى علاقة صامتة، أشعر به يلحظني ويتابعني من بعيد دون أن يتدخل في تصرفاتي، والدي لم ينسج لنفسه حلماً وردياً يعيش به ويتطلع إليه، لم يلجأ للأطباء مطارداً سراب الشفاء وعودة نور البصر لعيني البيضاء كنت في قلب لوحة الحياة وكان والدي خارج لوحتي التي أرسمها. أمي القروية لجأت لكل ما يصفه لها عجائز القرية من وصفات، فتبيت على عينيّ كل ليلة قطعة من القماش المحشو عجينة دبقة أو عشبة لها رائحة عفنة، وحين أستيقظ لا أستطيع فصل رمشيّ عن بعضهما لما قد أطبق عليهما من كل ما يثير شهية الذباب».